أصول تربية الأبناء في السنة النبوية



 



أصول تربية الأبناء في السنة النبوية


 حسن عبدالحي
تربيةُ الأبناء في كلِّ زمنٍ مهمَّةٌ صعبة لا شكَّ، وأصعبُ منها اليومَ استِفادتُها من بلورة العقل المُعاصِر لها؛ إذ تأثَّر كثيرٌ من أصحاب التوجُّهات التربوية - حتى الإسلاميين - بكِتابات الغرب المعنيَّة بالتفاصيل المُمِلَّة للقارئ، المُشَتِّتة له ولأَثَرِه التربوي، مع غِياب أخْذ يد المربِّي المفترض صناعته من هذا البحث إلى أصول التربية الواجِبَة فيه وفي مناخ التربية الصحيح.
 
ولك أن تتخيَّل أن بعض الباحثين الإسلاميين المَعنِيِّين بأمر التربية، أخرج بحثًا فيما يَزِيد على سبعمائة ورقة، يَقُول في مقدمته: إنَّه يَشعُر بأرق فكري؛ لأنه لم يستَطِع أن يُحِيط بما أراد؛ بل الأمر يحتاج إلى مَزِيد من البحث والدِّراسة!
 
وهذا الكلام عند النظر الصحيح قمَّةٌ في الخطورة، وقمَّة الأرق الحقيقي؛ إذ تربية الأبناء عمل يمتدُّ إلى كلِّ أحد في المجتمع المسلم القائم بأمر الله - تعالى - مع اختِلاف طبقات هذا المجتمع، ومع تفاوت ثقافات أبنائه، وتَبايُن قدراتهم الاستيعابية، وفارق سَعَة اطِّلاعهم.
 
كما أنَّ لازِم هذا الكلام اختِصاص فِئة مُعَيَّنة من التربويين فقط بتَطبِيق وتَفعِيل تِلكُم الأجِندة التربويَّة، أمَّا غير التربوي من جَماهِير الناس فلا حاجَةَ له أن يَتعلَّم كيف يُرَبِّي أبناءه؛ لأنه - وبكلِّ سهولة - لن يستطيع ذلك إلا بعد قِراءة طويلة لتفاصيل ودقائق مَواقِف التربية من يوم أن يُولَد الطفل حتى بلوغه مَبْلَغَ الرجال! وهذا ما لا يستطيعه - لضيق الوقت والانشغالات الأخرى - حتى حمَلَة هذا الدين؛ من دعاةٍ إلى الله، وطُلاَّب علم، إلى مجاهدين وعلماء، فضلاً عن العاميِّ المسلم الذي أراد تَنشِئَة ابنه أو ابنته على الإسلام.
 
إنَّنا لا نُنكِر بأيِّ حال أهميَّة الاستِفادة من التجرِبَة التربوية في الكتاب والبحث والمَقال، أو حتى في الواقع الذي نَعِيشه جميعًا، سواء في أنفُسِنا أو في الآخَرين، ولا نُنكِر كذلك أنَّ في بطون هذه الكتب والبحوث فوائدَ يستَفِيدها المربِّي ويعتبر بها، لكنَّنا نرى أنَّ تَسلِيط الضوء على تلك التفاصيل والمواقِف العابرة في رحلة تربية الأبناء، مع إهمال الأصول التي تُكسِب المربِّي آلة التربية، وتُغنِيه عن التبعيَّة في فهْم كلِّ موقف وواجب التصرُّف معه، نرى كلَّ هذا استبدالاً للذي هو أدنى بالذي هو خير.
 
على أنَّنا لو رأينا في هذه الكتب والبحوث جمعًا للأمرَيْن معًا؛ أي: وضْع الأصول التربوية في مكانها الأولي، ثم تحشيتها بالتفاصيل المُنبَثِقَة منها أو المناسبة لها، لكان الأمرُ أقربَ بكثيرٍ ممَّا نراه في كثيرٍ من تلك البحوث اليوم، من اهتِمام بالغٍ بتَفاصِيل وجُزئيَّات يُغنِي عن ذكرها أصلاً فَهْمُ وتطبيق الأصول والكليَّات، أو تجعلُ تلك التفاصيل والجزئيَّات أمثلة حيَّة لأصول التربية الصحيحة في حياة المربِّي أو المربَّى.
 
كما أنَّنا نَلحَظُ أنَّ غالبيَّة هذه البحوث تَعتَنِي بتصرُّفات وأفعال الأولاد أكثر من مَردُودات المربِّين أنفسهم، وهذا ممَّا يكثر الكلام والصفحات بلا فائدة، ونحن إذا أردنا حَصْرَ أقوال وأفعال طفل واحد في يوم واحد؛ سواء أكانت أقواله إيجابيَّة فتُحمَد، أو سلبيَّة فتُقَوَّم، لكتبْنا في هذا الكثير والكثير، فما الظنُّ لو كانت أقوالاً وأفعالاً لأنواعٍ من الأطفال تمتدُّ لسنوات طوال؟!
 
نعم، من التربية قراءةُ عقليَّةِ الابن وفهمها، مع معرفة دَوافِع أفعاله الإيجابيَّة والسلبيَّة، لكن هذا لا يَعنِي الترسُّل في ذلك، حتى يَتَشعَّب بنا الكلام ويَتخلَّل الملل إلى القارئ، ويَضِيق به المقام، وينسى عمله الذي له ابتدأ الخطاب التربوي.
 
وثَمَّ تنبيهٌ آخر هو الأهمُّ، وهو أنَّ مُنطَلَقات وغايات وأصول تربيتنا كمسلمين، تختَلِف اختلافًا أساسيًّا عن مُنطَلَقات وغايات وأصول الغربيين، وبناءً على هذا فإنَّه لا يَصِحُّ أن نستَقِي منهم حتى جزئيَّات وتَفاصِيل التربية؛ إذ إنَّ لهذه المواقف خلفيَّاتٍ أصوليَّةً قد لا تَتوافَق أبدًا مع أصولنا التربوية.
 
ومثال هذا غرْس المربِّي الغربيِّ مبدأَ الحريَّة المطلقة عند الطفل الغربي، وحكْمه على مَواقِف الطفل وتَصَوُّراته من خِلال ذلك المبدأ، ونحن وإنْ كنَّا نُعطِي للطفل مساحة من الحرية، إلا أننا نُقَيِّدها، ونجعل العبوديَّة أصْلَنا في هذا بدل الحرية، ثم تأتي الحرية مُوافِقة للعبودية.
 
إذًا نحن بحاجةٍ لمعرفة أن التطبيقات فرعٌ عن الأصول، وليس كما يَظُنُّ بعضنا من مُفارَقة في الأمرين.
 
وبعض الباحثين يُسَوِّغ هذا بقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الكلمة الحكمة ضالَّة المؤمِن، حيث وجدها فهو أحقُّ بها))؛ (رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الألباني: ضعيف جدًّا)، وغاية ما في هذا الحديث البحث عن الحكمة في مَظانِّها، والغرب في مجال التربية بالأخصِّ ليس من مَظَانِّ وجود الحكمة.
 
ولا شكَّ أنَّ الاستِفادة من كتب غير الإسلاميين في التربية مُمكِنة، لكن فقط بحيطة وحذَر؛ حتى لا يُدَسَّ لنا السمُّ في العسل، ومع التنبيه على أنَّ في تراثنا ما يُغنِي، إذا أطال الباحث نفَسه وأحسَن النظر والتدبُّر، وقبلَ كلِّ هذا استعان بالله مولاه.
 
وقد حَوَتِ السنَّة النبويَّة المنقولة إلينا كثيرًا، إن لم نقل: كلَّ الأصول التربوية التي تُؤَهِّل المربِّي في عملية التربية الصعْبة، تارَةً تصريحًا وأخرى تَلمِيحًا، وذلك بالإضافة للأصول العامَّة في الشخصية المسلِمة الناجِحة؛ كالحكمة والحلم والرحمة... وغير ذلك.
 
وواجِبُ الباحث هو إعمال وتفعيل تلك الصفات في أمر التربية، وضرْب الأمثلة لها بالمواقف النبوية، والآثار السلفيَّة، وصحيح التجارِب الحيَّة.
 
ولأنَّ مقالي ليس بحثًا تربويًّا كامِلاً؛ فسأُشِير فقط لبعض ما ورد عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في هذا الباب، مع استِنباط الأصول أو الأصل المُستَفاد من هذا الموقف، وتفعيله بتَوَسُّع في بابه؛ عسى أن يكون في ذلك دليل عملي رشيد.
 
عن عائشة - رضِي الله عنها - قالت: جاء أعرابي إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: تُقَبِّلون الصِّبيان؟ فما نقبِّلهم، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أوَأملك لك أن نَزَعَ الله من قلبك الرحمة؟))؛ (رواه البخاري ومسلم).
ففي هذا الحديث أصلٌ كبيرٌ من أصول التربية الصحيحة المُفتَرَضة في المربِّي، وهو ضرورة الرحمة والشَّفَقة في العمل التربوي، ويُمكِن إدراج آلاف المَسائِل والمواقف التربوية تحت هذا الأصل؛ كتَقبِيل الأبناء ومُعانَقتهم، وحملهم والجلوس واللَّعِب معهم... وهكذا كلُّ ما كان من صُوَرِ الرحمة والشَّفَقَة.
 
وعن ابن عباس - رضِي الله عنهما - قال: "بِتُّ عند خالتي (ميمونة) فقام النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُصَلِّي من الليل، فقمت أصلي معه، فقمتُ عن يساره، فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه"؛ (رواه البخاري).
وفي هذا الحديث أصلٌ آخر من أصول التربية العظيمة، وهو القدوة؛ فابن عباسٍ قام يُصلِّي لأنه رأى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قام يُصلِّي، وهكذا كلُّ ابن يَتَأسَّى بقدوته في الخير أو غير ذلك؛ وعليه يجب تنبيهُ المربِّي على ضرورة القدوة الحسنة وخطر القدوة السيِّئة، وهذا يشمل العبادات والمعاملات والأخلاق.
 
وعن عمر بن أبي سلمى قال: "كنت غُلاَمًا في حجر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكانت يدي تَطِيش في الصحفة، فقال لي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا غلام، سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ ممَّا يَلِيك))، فما زالت تلك طعمتي بعدُ"؛ (رواه البخاري ومسلم).
وفي هذا الحديث أصلٌ آخر مهم، وهو ضَرُورة التوجيه التربويِّ في المَواقِف والأحداث؛ ذلك أنه أثبت في ذهن المربَّى، وأوضح له من التوجيهات التربوية العامَّة؛ لذا قال عمر في هذا الحديث: فما زالت تلك طعمتي بعد.
 
وبعد:
فهذه - كما سبق - مجرَّد إشارات وأمثلة من هَدْيِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أمر التربية الصعْبة، نستَقِي منها أصولاً وكليَّات تربويَّة، تجعل المربِّي أكثر عمقًا ووَعْيًا ودِراية بحاله وحال المُرَبَّى، كما تُرَسِّخ عنده مَفاهِيم وتَصَوُّرات يستطيع بها قِيادَة هذه العمليَّة التربوية دون تَعقِيد لها، أو تَشتِيت لذهنه، أو تفريط في حقِّها.
 
وصلِّ اللهمَّ وسلِّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
 
والحمد لله ربِّ العالمين.

Share on Google Plus

نبدة chalhaoui

أخوكم في الله محاسب ائتماني، أحب صيد السمك والسفركما احب ان اكتب مواضيع في الدين الاسلام.
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 التعليقات:

إرسال تعليق