التحذير من قذف المحصنات المؤمنات الغافلات
الحمد لله، والصلاة والسلام على
رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن
محمدًا عبده ورسوله، وبعد..
فإن القذف من كبائر الذنوب التي
حرمها الله ورسوله، ورتب عليها الحد في الدنيا، والعذاب في الآخرة،
قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون ﴾ [النور:4]. وقال تعالى: ﴿
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ
لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم
﴾ [النور:23].
«ومعنى
الآية الكريمة: أن الذين يقذفون بالزنا
المحصناتِ الحرائرَ العفيفات العاقلات، ثم لم يأت هؤلاء القذفة
بأربعة شهداء على ما رموهن به، فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا فرق بين
كون المقذوف ذكرًا، أو أنثى، وإنما خص النساء بالذكر، لخصوص
الواقعة ولأن قذف النساء أشنع، وأغلب، وإنما استحق القاذف هذه
العقوبة صيانة لأعراض المسلمين عن التدنيس، ولأجل كف الألسن عن هذه
الألفاظ القذرة التي تلطخ أعراض الأبرياء، وصيانة للمجتمع الإسلامي
من شيوع الفاحشة فيه»[1].
والقذف من
السبع الموبقات التي حذر النبي صلى الله عليه وسلم منها. روى
البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ»،
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ،
وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا
بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي
يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ»[2].
والمقصود بالقذف هو الرمي بالزنا،
أو اللواط، سواء كان المقذوف رجلًا أو امرأة، قال الشيخ محمد صديق بن
حسن خان: «التحقيق أن المراد من رمي المحصنات المذكور في كتاب الله
عز وجل هو أن يأتي القاذف بلفظ يدل لغة، أو شرعًا، أو عرفًا، على
الرمي بالزنا ويظهر من قرائن الأحوال أن المتكلم لم يرد إلا ذلك،
ولم يأت بتأويل مقبول يصح حمل الكلام عليه، فهذا يوجب حد القذف بلا
شك، أو شبهة، وكذلك لو جاء بلفظ لا يحتمل الزنا أو يحتمله احتمالًا
مرجوحًا وأقر أنه أراد الرمي بالزنا فإنه يجب عليه الحد، وأما إذا
عرض بلفظ محتمل ولم تدل قرينة حال، ولا مقال على أنه قصد الرمي
بالزنا فلا شيء عليه لأن لا يسوغ إيلامه بمجرد الاحتمال»[3]
اهـ. والمراد بلا شيء عليه يعني الحد، أما التعزير فلا بد منه،
ويرجع ذلك إلى تقدير القاضي.
ويثبت حد القذف
بأمرين:
1 -
إقرار القاذف، ويثبت ذلك بإقراره مرة لكون إقرار المرء لازمًا له.
2 -
شهادة عدلين كسائر ما تمضي فيه الشهادة، كما أطلقه القرآن.
أما عقوبة القاذف الدنيوية والأخروية إذا لم يقم بينة على صحة ما
قال:
1-
أن يجلد ثمانين جلدة، قال تعالى: ﴿
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون
﴾ [النور: 4]. روى أبو داود في سننه من حديث عائشة رضي الله عنها
قالت: لَمَّا نَزَلَ عُذْرِي، قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
عَلَى الْمِنْبَرِ، فَذَكَرَ ذَاكَ وَتَلَا تَعْنِي الْقُرْآنَ،
فَلَمَّا نَزَلَ مِنَ الْمِنْبَرِ أَمَرَ بِالرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَةِ
فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ[4].
2-
أن ترد شهادته دائمًا إلا إذا تاب وأصلح لقوله تعالى: ﴿
وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون
* إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا
مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم
﴾ [النور: 4-5].
3-
أن يكون من الفاسقين، قال تعالى: ﴿
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون
﴾.
4-
يكون عند الله من الكاذبين، لقوله تعالى: ﴿
وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
﴾ [النور:7].
5-
أنه ملعون في الدنيا والآخرة، لقوله تعالى: ﴿
لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
﴾ [النور: 23].
6-
أن له عذابًا عظيمًا ادخره الله له يوم القيامة، لقوله تعالى: ﴿
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم ﴾ [النور: 23].
7-
تشهد عليه جوارحه زيادة في الخزي، والعار على رؤوس الأشهاد، لقوله
تعالى: ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ
عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُون ﴾ [النور:24].
8-
إن الله تعالى يوفيهم جزاء فعلهم، ويجزيهم حساب عملهم من القدر
المستحق من أنواع العذاب في نار جهنم لقوله تعالى: ﴿
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ
أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِين ﴾ [النور:25].
أما شروط القاذف والمقذوف والتفاصيل
في ذلك، فتراجع في مظانها في كتب الفقه.
وعلى المسلم أن يحفظ لسانه عن القذف،
والسب، والغيبة، وسائر الذنوب، فإن الحد إذا لم يؤخذ في الدنيا من
صاحبه أُخر إلى يوم القيامة. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَا، يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ»[5].
وعندما ذكر الله قصة قذف أم
المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كما في سورة النور، قال بعدها: ﴿
وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ
اللَّهِ عَظِيم ﴾ [النور:15]. وإذا اجتمع القذف مع الذنوب
الأخرى كان مهلكًا لصاحبه. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَتَدْرُونَ مَا
الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ
وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي
يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي
قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا،
وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ،
وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ
أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ
عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»[6].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله
وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
|
- Blogger Comment
- Facebook Comment
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة
(
Atom
)
0 التعليقات:
إرسال تعليق